نظرت في عين إبنها البالغ من العمر ثلاثة سنوات ، غرقت فيها . وأبحرت في بحور الزمن بلا قارب ولا مجداف ...فقط ذكرياتها ! كانت الآلام لا حدود لها ، وصرخاتها كادت ترج الجدران ، وزوجها بالخارج يسير ذهاباً وإياباً في أرجاء الصالة, فتبسمت لتخيلها مشهده ,صرخت فذابت الابتسامة وما منعها أن تلعن الحمل وآلامه سوى أنها انتظرته كثيراً ؛ ابنها الصغير ...الذى أحبته من قبل وجوده وصلت لله كثيراً لأجل أن يرزقها به .
أيقظتها قبلة على خدها من طفلها ، ما أجمل الذكريات وما أكثر جمالاً منها هو الواقع حين يكون جميلاً هَكَذَا ، مشعاً بالأمل من وجه ابنها ومحملاً بالحياة الخارج من عينيه . ضمته إلى حضنها فأحسّت بالراحة .هذا الإحساس الذى يخرس الكلمات ، كاذب من حاول وصفه . كاذب من حاول أن يتخيله دون أن يشعر به ، بادلته بقبلة منها وقالت له وهي تداعب خصلات شعره الأسود الداكن :
-كم أحبك يا صغيرى
_كم أحبك يا ماما !
قالها و جحظت عينيها وسعلت سعالاً شديداً وخرج مع سعالها الكثير من الدماء وما سقطت الدماء سوى على صغيرها ، فانتابته حالة من الرعب والذُعر والصرخات التي جعلت الجريدة تتساقط من يد والده الجالس بجوارهم فرفع رأسه فكان أول ما وقعت عليه عيناه .. وجه الطفل الملثم بالدماء وزوجته المغمى عليها .
لم يمضِ أسبوع حتى كان الليل والسواد والعزاء ، أناس يأتون ويرحلون والأب واقف ، لو يعلمون أن قدميه تحمله بصعوبة . لو يعلمون فيم يفكر وكيف يشعر ، لو يعلمون أن حديث الأطباء معه حين قالوا : زوجتك تحتضر ، وهذا مرض خطير لا علاج له .
لا يزال يدور فى عقله ، يتكرر ..يتكرر
زوجتك تحتضر .
يا لقسوتهم كيف قالوها ! وكيف قبض الموت روحها . أما كان يعلم أنها لم تسعد سوى خمس سنوات ، أما كان يعلم أن سعادتها هي عمر ابنه . سكنت الأفكار عينيه فبرقت . وظل يردد بداخله : ابنه! ، هل كان مولده شؤماً ..هل كان مولده شؤماً ..هل كان ؟!
أحياناً تأتي السنين فتنقش بداخل أرواحنا وتكتب فوق جروحنا, وما تمحو السنين القادة شيئاً مما كتبته الأولى ...بل تزيد من الآلام ،وتتلاطم الأمواج فوق الصخور وتظل متصنعة الصلابة . ولكن الحقيقة أنها تتفتت وإن لم نرَ ذلك .
ما كان رحيلهم إلى الأسكندرية يغير شيئاً, بل إن مشهد البحر في عين الأب يذكّرهُ كل يوم بكونه يغرق بل أنه يرى من شرفته صفحات المياه تعكس حزنه .لم يتغير شيء سوى ظهور الشيب في شعر الأب ولكن هذا أفضل قليلاً من وجوده في شقة المرحومة . وكيف يوجد وكل خطوة يخطوها يراها فيها . لم تكن طيف ولم يكن يهذي, فالحقيقة أنها لم تشأ الرحيل وإرادتها للبقاء غلبت العدم فوُجدت !
آهـ عاد من أفكاره إلى أفكاره ، من قال إنّ وجوده هناك كان أفضل ، بل ربما لو ظل هناك لجُنّ, رفع أحد حاجبيه وهو يفكر ؛ ترى هل لم يجن بعد !, نهض باحثاً عن قداحته لإشعال لفافته ، ظل يلتف حوله لعن القداحة المختبئة منه ، وجد يد تمتد إليه بها ، رفع عينيه فوجده والده ,أخذها منه وجلس المسن على الكرسيّ المقابل في الشرفة وقال الجد بألم :
-أفضل العرّافات والمشعوذين ما كانو ليتنبئوا بأنك ستدخن يوما ما!
-هذا لأنهم عرافات ومشعوذين يا أبي
-لم تفقد دعابتك يوماً ولكنها أصبحت تخرج منك مريرة
-لا تفتح الموضوع يا أبي ، قل لي أين الصغير ؟
-نائم ، كما أنه كبر على أن تدعوه بالصغير ، وأنت الذى تغير الموضوع الآن ..أخبرني لم لا تتزوج ؟
-ألم أقل لك لا تفتح الموضوع يا أبي ، أنا أحيا لتربية الصغير
-عن أيّ تربية تتحدث ، أنت قد تعقده نفسياً ..لماذا تعامله بهذا السوء ؟!
-لن أتزوج يا أبي !
-لا تغير الموضوع ،وقل لي لماذا تعامله بهذا السوء ؟
استمر الصمت وتغيرت ملامح الجدّ إلى الحزن المرير, ودوائر الدخان الخارجة من سجائر ابنه أتعبت صدره فنهض مستنداً على عصاه وسار ببطء ، حتى وصل إلى غرفة نوم حفيده وجلس بجواره على الفراش ووضع يده على رأسه وبحنان السنين الذى لم ينضب قال بداخله : إن لم تكن أنت منبع للحنان لولدك يا بني فأنا الحنان !
وقف الأب خارج الغرفة, فكلمات والده من معاملته السيئة لابنه أزعجته ، ربما يكون بالفعل أساء معاملته و ذلك لكونه لم يتجاوز صدمة وفاة زوجته ولكن قد مرت أكثر من عشر سنوات وكارثة لو أسرته الصدمة أكثر فربما دمر ابنه ! .
بالفعل أساء معاملة الصغير كثيراً ، عشر سنوات من المعاملة السيئة ، بدأ يخاطب نفسه ، وتذكر حديثه مع زوجته حين قالت له : عدني أن تكون أباً صالحاً . أين هو من وعده لها الآن ! ومن قال إن مجرد موت زوجته يجعل من ابنه شؤماً !
ترك أفكاره وأنصت السمع لحديث الجد مع ولده المستيقظ :
- صباح الخير
-صباح الخير يا جدو
-أنهض لتلقي التحية على والدك
أمتعض الحفيد وقال :
- وإن كان لا يريد ذلك
-لا يحزنك معاملة والدك لك فهو يحبك وإن لم يظهر ذلك منه ...هيا قم وكن كما عهدتك, حفيدي المهذب
أبتسم الحفيد وقال :
-حسنا يا جدو ، سأفعل
-كم أحبك يا حفيدى الصغير
-وأنا أحبك أكثر !
نشعر أحياناً عند أحاديث معينة أنها لها دلالة خاصة ، ربما لم ندرك ذلك فى حينها ولكن مع مضي الوقت تتسع الرؤية ويظهر لنا ما خفي عنا ، وهذا ما شعر به الأب حين كان يحادثه الجد قائلاً :
الجد:لقد علمت أنك تسمع حديثنا اليوم
الاب: وكيف علمت ذلك ؟
الجد:كما علمت في كل مرة تسمع فيها حديثي مع ولدك
قال الأب بابتسامة :
هذا أبي
الجد:وأنا أريد أن أقول مثلك ؛هذا أبني ، فهل لك أن تحقق أمنيتي
الاب:نعم يا أبي
الجد:لماذا تعامله بهذا السوء ؟
- سأخبرك يا أبي ، ربما لم أستطع أن أخرج من صدمة رحيل زوجتي بسهولة ، لا أعلم كيف فكرت في ذلك ..ولكننى ظننت أن مجيء الصغير للدنيا كان شؤماً !
- الجد:أجننت ...كيف تفكر هكذا ؟ ،هذا قدر الله ، ابنك له إبتسامة تنير الدنيا بأكملها ، ما الذى تقوله !
الاب:لا أعلم يا أبي كيف فكرت كذلك ، ولكنى حين رأيت وجهه والدماء تغطيه, وأمه مغمى عليها كان الطفل بشع كالشيطان !
الجد:فقط هي الصدمة ، العقل دائما يبحث عن أسباب والحكمة ما هي إلا معرفة أسباب الشيء وأنت بحثت عن سبب لرحيلها فلم تجد فربطت السبب بالطفل ...كم كنت قاسياً أكثر من عشر سنوات !
الاب:نعم أدرك الآن كم كنت مخطئاً
أغمض عينيه في ألم تلك المرة لم يستطع أن يقف ، لم يستطع أن يتحمل العزاء وترك ابنه يفعل ذلك ، ولم يتحمل الليل . رحيل الجد وسؤال كانت إجابته خاطئة منذ أسبوع في آخر حوار لهما يطرق عقله باستمرار : من كان المخطئ الآن يا أبي ..من كان المخطئ الآن أيها الجد !
الاب:لا أريدك أن تخدمني
الابن: وأنا مثلك.. ولكن مماتك لن يسعدني رغم أن حياتك لا تسعدني كذلك !
جلس الشاب في غرفته المغلقة ، أخرج لفافة تبغ وأشعلها ، سمع سباب الأب يتصاعد ، لعنه الأبن بداخله ، وأعلى من صوت الأغانى أكثر كي لا يسمع صوته ، يأسَ الشاب من والده الأحمق . ألا يرى أن عمره أصبح تسعة عشر عاماً ، يا ترى منذ متى وهو يعامله بذلك السوء! كان أكثر عمره الطفل المهذب و الشاب المطيع ، وكأن أخلاقه المهذبة تزعج والده ، ما هذا الجنون . صرخ بغضب :
-فلتهنأ أيها الأحمق في الجحيم !
مضت الأيام والحياة تزداد سوءاً في المنزل فاللعنات تستمر بين الأب المريض الراقد على الفراش وبين ابنه الشاب ، يقول الأب إنه لعنة فيضحك الشاب ويقول ذلك تفكير شخص مجنون ! وكل شمس تشرق على المنزل تأتي بالليل ، ولولا خروجه كل يوم لذهابه للجامعة لربما ظن الشاب أن مصيره كمصير والده المجنون !
والجامعة ، ما أجمل الجامعة ، لم تكن جميلة يوماً في حياته حتى جاء اليوم الذي تعرف فيه على فتاة .
كانت محاضرة ككل المحاضرات وكان جالساً في الركن الأخير كعادته رآها تدخل من الباب وتتقدم وقرأ في عينيها أنها تقصده هو ، وصدقت قراءته ولم يكن يظن أنه بارع في قراءة العيون من قبل ، وجلست بجواره وبدأت في الحديث معه ، سألته عما فاتها من محاضرات والحقيقة أنه لم يركز في حديثها ، فقط كان ينظر في عينيها ، ولم يفكر لمَ سألته هو من دون الجميع فهذا سؤال يعلم إجابته .
لم يتصور من قبل أن الحياة ربما تتحسن بهذا الشكل .وكان كل يوم يأتي فيه إلى الجامعة يأتي فقط لأجل لقائها ، لم يتحدثا في شيء ، كان أغلب جلوسهما سوياً صامتاً . يتبادلان النظرات ، يضيع في عينيها الواسعتين العسليتين وكأنهما نهر من عسل ، يأتي بعض الهواء المحمل بالنسيم ودائما يأتي الهواء في موعده فتتطاير خصلات شعرها الذهبي لتزيدها جمالاً . لم يتحدثا في شيء .
لم يريدا أن يقتلا اللحظات الحلوة بالحديث, لم يريدا أن يقتلا الصمت بالكلمات . تنتهي المحاضرات فيعود كل منهما إلى منزله يتبادلان المكالمات بين الحين والآخر ,يلاحظ والده السعادة المشرقة في عينيه .فيلعنه لسعادته . فيبتسم الشاب !
لم تصبح لعنات الأب وصرخاته وسبابه لها أهمية في حياته ,فمن دخل مملكة قوس قزح بعدما حمله بساط علاء الدين يكون من الغباء الاهتمام بأشياءٍ غير مهمة ، تمضي الأيام والسعادة تظهر أكثر في عينيه والراحة تسكن وجدانه أكثر والعلاقة بينه وبين الفتاة تقوى والغريب أن ذلك يزعج الأب المريض ، ويتساءل الأبن : أسعادتي تزعجه لهذا الحد ؟!
حاول أن يوطد علاقته بوالده بعدما حكى لصديقته عن حياته ، أخبرته أن عليه بالرفق وإن لم يفعل معه والده المثل ، لكلامها عذوبة تحمله على تحمل المشاق ، قام بالفعل بمحاولة تحسين علاقته بوالده, لم يشأ ذلك والده في البداية بل حاول المقاومة,و مع مضي الأحاديث أكثر حول الفتاة وعن كونه بدأ يعجب بها بدأ يظهر الاهتمام على وجه الأب ، الاهتمام وليس السعادة !
جلس الشاب في "الكافية" ينتظر الفتاة ، وأمامه على المنضدة باقة ورد ، هذا اللقاء مختلف ، هذا اللقاء سيجعل من كل اللقاءات مختلفة ، اليوم سيعترف للفتاة بحبه لها ويكاد يجزم بأنها تبادله ذات العشق ، وجد الفتاة تقترب إليه ، نظر إلى باقة الورد التي أتى بها وتساءل كيف يمكن تقديم الورد لأصل الورد ! اقتربت أكثر حتى كادت على بعد خطوتين منه ، شرد لحظة في الحديث الذي دار بينه وبين والده حين أخبره أنه يحب تلك الفتاة وأنه اليوم سيخبرها بذلك, تذكر توسلاته له ألا يفعل ذلك وتذكر صرخاته فيه حين قال : أنت تكره سعادتى يا أبي ..أنت تكره سعادتى يا أبي ..هذا جنون !
دخل الابن الشقة وما أن سمع والده باب الشقة يفتح حتى صرخ :أقلت لها أنك تحبها .. أقلت لها أنك تحبها ؟
تجاوز الأبن نداء والده كما تجاوز غرفته أيضاً, دخل غرفته وأغلق الباب وجلس على مقعده واضعاً إحدى قدميه فوق الأخرى على المكتب وألقى علبه سجائره معلناً أنه لا تدخين بعد اليوم وظل يدندن مع إحدى أغاني كاظم
(لم يحدث أبداً أن أحببت بهذا العمق ..أنى سافرت مع أمرآة لبلاد الشوق ...وضرب شواطئ عينيها كالرعد الغاضب أو كالبرق فأنا فى الماضى لم أعشق بل كنت أمثل دور العشق )
مضى أسبوع وذات المجلس ووصول خبر وفاة الفتاة وسحابات الدخان تملأ الغرفة والشاب يبكي بحرقة لا مثيل لها ، والأب ينهض بصعوبة من فراشه حتى يدخل غرفة ابنه ويقول له بسخرية مريرة مشجوبة بالحزن :
- ماتت... أليس كذلك؟
برقت عين الشاب وحاول تجفيف الدموع وقال :
-كيف علمت وماذا تقصد ؟
-ألم أقل لك أنك لعنة !
-أنت مجنون ..اذهب إلى فراشك عليك اللعنة !
تعالت ضحكات الأب وقال :
- أنت السبب في موت والدتك !
-كيف أيها الأحمق ..!
-أنت السبب في موت جدك ..أنت السبب في موت الفتاة !كلما أحببت أحداً.. يموت ..كلما كنت تحب أحداً وتخبره بذلك لا يمر أسبوع حتى يحتضنه القبر !
-ذلك جنون ..ذلك جنون
تعالت ضحكات الأب وقال :
-ذلك الجنون منتهى العقل !
برقت عين الشاب وصمت وفكر فوجد في ذلك منطقية فقال فى حسرة :
-ليتني أحبك !
ضحك الأب بجنون وقال:
-ليته كان بيدك ! ولكن دعك مني فأنت عليك الآن ما هو أصعب من ذلك .. أنت الآن عليك أن تكره نفسك فلو أحببتها لكتبت شهادة وفاتك بنفسك ...وسأدفنك أيها الشيطان ..وسأدفنك حينها !
مر أسبوع ، وفراش عليه جسد الشاب ...ولكنه جسد بارد ...
والأب يسير بصعوبة يستند على الجدران ينادى على ابنه ، يدخل غرفته فيجده لا يتنفس ، فتتعالى ضحكات الأب المجنون
ويظل يردد كلامه وهو يتجول في أرجاء الشقة :
-كره نفسه ..حباً في نفسه ،
كره نفسه.. حباً في نفسه
ففارقته الحياة !
منقول
أيقظتها قبلة على خدها من طفلها ، ما أجمل الذكريات وما أكثر جمالاً منها هو الواقع حين يكون جميلاً هَكَذَا ، مشعاً بالأمل من وجه ابنها ومحملاً بالحياة الخارج من عينيه . ضمته إلى حضنها فأحسّت بالراحة .هذا الإحساس الذى يخرس الكلمات ، كاذب من حاول وصفه . كاذب من حاول أن يتخيله دون أن يشعر به ، بادلته بقبلة منها وقالت له وهي تداعب خصلات شعره الأسود الداكن :
-كم أحبك يا صغيرى
_كم أحبك يا ماما !
قالها و جحظت عينيها وسعلت سعالاً شديداً وخرج مع سعالها الكثير من الدماء وما سقطت الدماء سوى على صغيرها ، فانتابته حالة من الرعب والذُعر والصرخات التي جعلت الجريدة تتساقط من يد والده الجالس بجوارهم فرفع رأسه فكان أول ما وقعت عليه عيناه .. وجه الطفل الملثم بالدماء وزوجته المغمى عليها .
لم يمضِ أسبوع حتى كان الليل والسواد والعزاء ، أناس يأتون ويرحلون والأب واقف ، لو يعلمون أن قدميه تحمله بصعوبة . لو يعلمون فيم يفكر وكيف يشعر ، لو يعلمون أن حديث الأطباء معه حين قالوا : زوجتك تحتضر ، وهذا مرض خطير لا علاج له .
لا يزال يدور فى عقله ، يتكرر ..يتكرر
زوجتك تحتضر .
يا لقسوتهم كيف قالوها ! وكيف قبض الموت روحها . أما كان يعلم أنها لم تسعد سوى خمس سنوات ، أما كان يعلم أن سعادتها هي عمر ابنه . سكنت الأفكار عينيه فبرقت . وظل يردد بداخله : ابنه! ، هل كان مولده شؤماً ..هل كان مولده شؤماً ..هل كان ؟!
أحياناً تأتي السنين فتنقش بداخل أرواحنا وتكتب فوق جروحنا, وما تمحو السنين القادة شيئاً مما كتبته الأولى ...بل تزيد من الآلام ،وتتلاطم الأمواج فوق الصخور وتظل متصنعة الصلابة . ولكن الحقيقة أنها تتفتت وإن لم نرَ ذلك .
ما كان رحيلهم إلى الأسكندرية يغير شيئاً, بل إن مشهد البحر في عين الأب يذكّرهُ كل يوم بكونه يغرق بل أنه يرى من شرفته صفحات المياه تعكس حزنه .لم يتغير شيء سوى ظهور الشيب في شعر الأب ولكن هذا أفضل قليلاً من وجوده في شقة المرحومة . وكيف يوجد وكل خطوة يخطوها يراها فيها . لم تكن طيف ولم يكن يهذي, فالحقيقة أنها لم تشأ الرحيل وإرادتها للبقاء غلبت العدم فوُجدت !
آهـ عاد من أفكاره إلى أفكاره ، من قال إنّ وجوده هناك كان أفضل ، بل ربما لو ظل هناك لجُنّ, رفع أحد حاجبيه وهو يفكر ؛ ترى هل لم يجن بعد !, نهض باحثاً عن قداحته لإشعال لفافته ، ظل يلتف حوله لعن القداحة المختبئة منه ، وجد يد تمتد إليه بها ، رفع عينيه فوجده والده ,أخذها منه وجلس المسن على الكرسيّ المقابل في الشرفة وقال الجد بألم :
-أفضل العرّافات والمشعوذين ما كانو ليتنبئوا بأنك ستدخن يوما ما!
-هذا لأنهم عرافات ومشعوذين يا أبي
-لم تفقد دعابتك يوماً ولكنها أصبحت تخرج منك مريرة
-لا تفتح الموضوع يا أبي ، قل لي أين الصغير ؟
-نائم ، كما أنه كبر على أن تدعوه بالصغير ، وأنت الذى تغير الموضوع الآن ..أخبرني لم لا تتزوج ؟
-ألم أقل لك لا تفتح الموضوع يا أبي ، أنا أحيا لتربية الصغير
-عن أيّ تربية تتحدث ، أنت قد تعقده نفسياً ..لماذا تعامله بهذا السوء ؟!
-لن أتزوج يا أبي !
-لا تغير الموضوع ،وقل لي لماذا تعامله بهذا السوء ؟
استمر الصمت وتغيرت ملامح الجدّ إلى الحزن المرير, ودوائر الدخان الخارجة من سجائر ابنه أتعبت صدره فنهض مستنداً على عصاه وسار ببطء ، حتى وصل إلى غرفة نوم حفيده وجلس بجواره على الفراش ووضع يده على رأسه وبحنان السنين الذى لم ينضب قال بداخله : إن لم تكن أنت منبع للحنان لولدك يا بني فأنا الحنان !
وقف الأب خارج الغرفة, فكلمات والده من معاملته السيئة لابنه أزعجته ، ربما يكون بالفعل أساء معاملته و ذلك لكونه لم يتجاوز صدمة وفاة زوجته ولكن قد مرت أكثر من عشر سنوات وكارثة لو أسرته الصدمة أكثر فربما دمر ابنه ! .
بالفعل أساء معاملة الصغير كثيراً ، عشر سنوات من المعاملة السيئة ، بدأ يخاطب نفسه ، وتذكر حديثه مع زوجته حين قالت له : عدني أن تكون أباً صالحاً . أين هو من وعده لها الآن ! ومن قال إن مجرد موت زوجته يجعل من ابنه شؤماً !
ترك أفكاره وأنصت السمع لحديث الجد مع ولده المستيقظ :
- صباح الخير
-صباح الخير يا جدو
-أنهض لتلقي التحية على والدك
أمتعض الحفيد وقال :
- وإن كان لا يريد ذلك
-لا يحزنك معاملة والدك لك فهو يحبك وإن لم يظهر ذلك منه ...هيا قم وكن كما عهدتك, حفيدي المهذب
أبتسم الحفيد وقال :
-حسنا يا جدو ، سأفعل
-كم أحبك يا حفيدى الصغير
-وأنا أحبك أكثر !
نشعر أحياناً عند أحاديث معينة أنها لها دلالة خاصة ، ربما لم ندرك ذلك فى حينها ولكن مع مضي الوقت تتسع الرؤية ويظهر لنا ما خفي عنا ، وهذا ما شعر به الأب حين كان يحادثه الجد قائلاً :
الجد:لقد علمت أنك تسمع حديثنا اليوم
الاب: وكيف علمت ذلك ؟
الجد:كما علمت في كل مرة تسمع فيها حديثي مع ولدك
قال الأب بابتسامة :
هذا أبي
الجد:وأنا أريد أن أقول مثلك ؛هذا أبني ، فهل لك أن تحقق أمنيتي
الاب:نعم يا أبي
الجد:لماذا تعامله بهذا السوء ؟
- سأخبرك يا أبي ، ربما لم أستطع أن أخرج من صدمة رحيل زوجتي بسهولة ، لا أعلم كيف فكرت في ذلك ..ولكننى ظننت أن مجيء الصغير للدنيا كان شؤماً !
- الجد:أجننت ...كيف تفكر هكذا ؟ ،هذا قدر الله ، ابنك له إبتسامة تنير الدنيا بأكملها ، ما الذى تقوله !
الاب:لا أعلم يا أبي كيف فكرت كذلك ، ولكنى حين رأيت وجهه والدماء تغطيه, وأمه مغمى عليها كان الطفل بشع كالشيطان !
الجد:فقط هي الصدمة ، العقل دائما يبحث عن أسباب والحكمة ما هي إلا معرفة أسباب الشيء وأنت بحثت عن سبب لرحيلها فلم تجد فربطت السبب بالطفل ...كم كنت قاسياً أكثر من عشر سنوات !
الاب:نعم أدرك الآن كم كنت مخطئاً
أغمض عينيه في ألم تلك المرة لم يستطع أن يقف ، لم يستطع أن يتحمل العزاء وترك ابنه يفعل ذلك ، ولم يتحمل الليل . رحيل الجد وسؤال كانت إجابته خاطئة منذ أسبوع في آخر حوار لهما يطرق عقله باستمرار : من كان المخطئ الآن يا أبي ..من كان المخطئ الآن أيها الجد !
الاب:لا أريدك أن تخدمني
الابن: وأنا مثلك.. ولكن مماتك لن يسعدني رغم أن حياتك لا تسعدني كذلك !
جلس الشاب في غرفته المغلقة ، أخرج لفافة تبغ وأشعلها ، سمع سباب الأب يتصاعد ، لعنه الأبن بداخله ، وأعلى من صوت الأغانى أكثر كي لا يسمع صوته ، يأسَ الشاب من والده الأحمق . ألا يرى أن عمره أصبح تسعة عشر عاماً ، يا ترى منذ متى وهو يعامله بذلك السوء! كان أكثر عمره الطفل المهذب و الشاب المطيع ، وكأن أخلاقه المهذبة تزعج والده ، ما هذا الجنون . صرخ بغضب :
-فلتهنأ أيها الأحمق في الجحيم !
مضت الأيام والحياة تزداد سوءاً في المنزل فاللعنات تستمر بين الأب المريض الراقد على الفراش وبين ابنه الشاب ، يقول الأب إنه لعنة فيضحك الشاب ويقول ذلك تفكير شخص مجنون ! وكل شمس تشرق على المنزل تأتي بالليل ، ولولا خروجه كل يوم لذهابه للجامعة لربما ظن الشاب أن مصيره كمصير والده المجنون !
والجامعة ، ما أجمل الجامعة ، لم تكن جميلة يوماً في حياته حتى جاء اليوم الذي تعرف فيه على فتاة .
كانت محاضرة ككل المحاضرات وكان جالساً في الركن الأخير كعادته رآها تدخل من الباب وتتقدم وقرأ في عينيها أنها تقصده هو ، وصدقت قراءته ولم يكن يظن أنه بارع في قراءة العيون من قبل ، وجلست بجواره وبدأت في الحديث معه ، سألته عما فاتها من محاضرات والحقيقة أنه لم يركز في حديثها ، فقط كان ينظر في عينيها ، ولم يفكر لمَ سألته هو من دون الجميع فهذا سؤال يعلم إجابته .
لم يتصور من قبل أن الحياة ربما تتحسن بهذا الشكل .وكان كل يوم يأتي فيه إلى الجامعة يأتي فقط لأجل لقائها ، لم يتحدثا في شيء ، كان أغلب جلوسهما سوياً صامتاً . يتبادلان النظرات ، يضيع في عينيها الواسعتين العسليتين وكأنهما نهر من عسل ، يأتي بعض الهواء المحمل بالنسيم ودائما يأتي الهواء في موعده فتتطاير خصلات شعرها الذهبي لتزيدها جمالاً . لم يتحدثا في شيء .
لم يريدا أن يقتلا اللحظات الحلوة بالحديث, لم يريدا أن يقتلا الصمت بالكلمات . تنتهي المحاضرات فيعود كل منهما إلى منزله يتبادلان المكالمات بين الحين والآخر ,يلاحظ والده السعادة المشرقة في عينيه .فيلعنه لسعادته . فيبتسم الشاب !
لم تصبح لعنات الأب وصرخاته وسبابه لها أهمية في حياته ,فمن دخل مملكة قوس قزح بعدما حمله بساط علاء الدين يكون من الغباء الاهتمام بأشياءٍ غير مهمة ، تمضي الأيام والسعادة تظهر أكثر في عينيه والراحة تسكن وجدانه أكثر والعلاقة بينه وبين الفتاة تقوى والغريب أن ذلك يزعج الأب المريض ، ويتساءل الأبن : أسعادتي تزعجه لهذا الحد ؟!
حاول أن يوطد علاقته بوالده بعدما حكى لصديقته عن حياته ، أخبرته أن عليه بالرفق وإن لم يفعل معه والده المثل ، لكلامها عذوبة تحمله على تحمل المشاق ، قام بالفعل بمحاولة تحسين علاقته بوالده, لم يشأ ذلك والده في البداية بل حاول المقاومة,و مع مضي الأحاديث أكثر حول الفتاة وعن كونه بدأ يعجب بها بدأ يظهر الاهتمام على وجه الأب ، الاهتمام وليس السعادة !
جلس الشاب في "الكافية" ينتظر الفتاة ، وأمامه على المنضدة باقة ورد ، هذا اللقاء مختلف ، هذا اللقاء سيجعل من كل اللقاءات مختلفة ، اليوم سيعترف للفتاة بحبه لها ويكاد يجزم بأنها تبادله ذات العشق ، وجد الفتاة تقترب إليه ، نظر إلى باقة الورد التي أتى بها وتساءل كيف يمكن تقديم الورد لأصل الورد ! اقتربت أكثر حتى كادت على بعد خطوتين منه ، شرد لحظة في الحديث الذي دار بينه وبين والده حين أخبره أنه يحب تلك الفتاة وأنه اليوم سيخبرها بذلك, تذكر توسلاته له ألا يفعل ذلك وتذكر صرخاته فيه حين قال : أنت تكره سعادتى يا أبي ..أنت تكره سعادتى يا أبي ..هذا جنون !
دخل الابن الشقة وما أن سمع والده باب الشقة يفتح حتى صرخ :أقلت لها أنك تحبها .. أقلت لها أنك تحبها ؟
تجاوز الأبن نداء والده كما تجاوز غرفته أيضاً, دخل غرفته وأغلق الباب وجلس على مقعده واضعاً إحدى قدميه فوق الأخرى على المكتب وألقى علبه سجائره معلناً أنه لا تدخين بعد اليوم وظل يدندن مع إحدى أغاني كاظم
(لم يحدث أبداً أن أحببت بهذا العمق ..أنى سافرت مع أمرآة لبلاد الشوق ...وضرب شواطئ عينيها كالرعد الغاضب أو كالبرق فأنا فى الماضى لم أعشق بل كنت أمثل دور العشق )
مضى أسبوع وذات المجلس ووصول خبر وفاة الفتاة وسحابات الدخان تملأ الغرفة والشاب يبكي بحرقة لا مثيل لها ، والأب ينهض بصعوبة من فراشه حتى يدخل غرفة ابنه ويقول له بسخرية مريرة مشجوبة بالحزن :
- ماتت... أليس كذلك؟
برقت عين الشاب وحاول تجفيف الدموع وقال :
-كيف علمت وماذا تقصد ؟
-ألم أقل لك أنك لعنة !
-أنت مجنون ..اذهب إلى فراشك عليك اللعنة !
تعالت ضحكات الأب وقال :
- أنت السبب في موت والدتك !
-كيف أيها الأحمق ..!
-أنت السبب في موت جدك ..أنت السبب في موت الفتاة !كلما أحببت أحداً.. يموت ..كلما كنت تحب أحداً وتخبره بذلك لا يمر أسبوع حتى يحتضنه القبر !
-ذلك جنون ..ذلك جنون
تعالت ضحكات الأب وقال :
-ذلك الجنون منتهى العقل !
برقت عين الشاب وصمت وفكر فوجد في ذلك منطقية فقال فى حسرة :
-ليتني أحبك !
ضحك الأب بجنون وقال:
-ليته كان بيدك ! ولكن دعك مني فأنت عليك الآن ما هو أصعب من ذلك .. أنت الآن عليك أن تكره نفسك فلو أحببتها لكتبت شهادة وفاتك بنفسك ...وسأدفنك أيها الشيطان ..وسأدفنك حينها !
مر أسبوع ، وفراش عليه جسد الشاب ...ولكنه جسد بارد ...
والأب يسير بصعوبة يستند على الجدران ينادى على ابنه ، يدخل غرفته فيجده لا يتنفس ، فتتعالى ضحكات الأب المجنون
ويظل يردد كلامه وهو يتجول في أرجاء الشقة :
-كره نفسه ..حباً في نفسه ،
كره نفسه.. حباً في نفسه
ففارقته الحياة !
منقول
عدل سابقا من قبل Banota في 2nd سبتمبر 2008, 1:20 am عدل 1 مرات