و حتى لا يستمر اللون الأحمر
نظر إلى مرآة السيارة و كأنه يرى ملامح وجهه لأول مرة و يلمح شيئاً ما لم يعتده من قبل في عينيه، بدايات ثورة و دقات خافتة لطبول حرب على وشك البدء.أتجه بنظره إلى إشارة المرور الحمراء و تنهد بقوة ثم قال:
- يجب أن ينتهي كل شيء اليوم.
ثم نظر حوله ليجد السيارات و هي تقف أسيرة تلك الإشارة، و الأبواق العالية تخرج منها لتطالب بالمرور، و تطلع إلى ساعته و تأمل العقارب و هي تشير إلى العاشرة مساءً و رنين هاتفه المحمول لا ينقطع أبداً منذ أكثر من ساعتين و هو يرفض أن يرد، ربما لأنه يعرف شخصية المتحدث، و ربما لأنه يعرف أيضاً ماذا يريد المتحدث منه.
نظر إلى مرآة السيارة من جديد و تأمل رابطة العنق الحمراء وهو الذي لم يكره لون في حياته مثلما كره اللون الأحمر، و لأن اليوم هو بداية الثورة على كل شيء فقد نزع رابطة العنق و ألقاها بقوة جانباً، ثم اكتست ملامحه بقسوة عجيبة و تأمل إشارة المرور من جديد و لونها الأحمر و أصدر قراره بهزيمتها، و اتجهت يداه إلى عجلة القيادة و انطلقت السيارة لتكسر أسر هذه الإشارة التي لم يكن لها ذنب سوى أن لونها الأحمر قد جعله أسير انتظار و هو الذي قد قرر أن يحطم كل أشكال الأسر هذا اليوم، و لم يأبه بأبواق الاستنكار و لا بقلم شرطي المرور و هو يسابق الوقت من أجل تسجيل رقم سيارته على الورقة،
لم يهتم لأمر كل هذا، و ما بين رنين الهاتف المحمول و مؤشر السيارة الذي يعلن عن سرعة كبيرة و ما بين قطرات المطر التي بدأت تتساقط و تلك النسمات الباردة، وصل إلى بيته و نظر إليه و كأنه يتأمله لأول مرة أو و كأنه يريد أن يتأمله لآخر مرة.
خرج من باب السيارة و رفض أن يرتدي المعطف برغم برودة هذا الشتاء، أو ربما لم يكن الشتاء هو السبب في رفضه لارتداء هذا المعطف و ربما كانت بدايات الثورة التي وضعت نارها و بدأت أولى الخطوات هي السبب..!!، و لكنه أمسك برابطة العنق الحمراء و لا يعرف لماذا..؟؟ و أنطلق نحو شقته و صعد السلم بقوة على الرغم من وجود مصعد كهربائي و برغم وجود شقته في الدور التاسع إلا أنه صعد السلم في لحظة تمرد على كل شيء، ووصل إلى الشقة و بمجرد أن فتح الباب حتى وجد زوجته تجري إليه و دموع عيناها تتساقط و تحتضنه و كلامها يخرج منها مشوشاً بفعل الدموع، و لكنه لم يحضنها و لم يحاول حتى أن يهدئ من روعها، فهو يعلم جيداً أنها القصر الذي يريده أن ينهار أو أنها القيد الذي يريده أن يتحطم، حتى لو كانت قيداً حريرياً، لكنها كانت قيداً على أية حال، و جاء الوقت ليتحطم القيد و لتسقط جدران القصر التي ماتت خلفها كل أحلامه و رغبته في أن يعيش حياته كما يحلو له، يعرف جيداً أن زوجته لم تخطئ في حقه و لكنه أخطأ في حقها و في حق نفسه عندما تزوجها و هو لا يحبها نزولاً على رغبة والدته المريضة، أخطأ في حق زوجته عندما جعلها تصدق أنه يحبها و يحب كل ما تفعله و جعلها تصدق أنها تملك أحلامه و أنها أميرة حياته و ظل يبني لها قصور حب دون أن يدري أن هذه القصور سوف تتحول إلى سجنٍ يكبل قلبه بأغلال لا مفر منها إلا بهذه الثورة التي سوف تطيح بكل شيء و بأي شيء.
فك ذراعيها بهدوء من على عنقه و أبتعد إلى الوراء قليلا ً و حانت لحظة الحرب و بدأت الطبول تعلو و كل السبل يراها مهيأة لذلك و خصوصاً بعد أن توفت والدته و لم يعد هناك داعٍ لأن يستمر في تلك المسرحية الهزلية التي يجب أن تنتهي فصولها إلى الأبد، و سوف يخبرها بأنها كانت عظيمة و جميلة و لكن قلبه كان و مازال يتعلق بأخرى، و سوف يطلب منها الغفران لخطيئته في حقها لأنه لم يعد بوسعه أن يستمر و لن يستمر.
نظر إلى زوجته، تأمل عينيها و الدموع التي بدأت تهدأ، و قرر أخيراً أن يتحدث و أن يعلن ثورته.
" أبي " كلمة خرجت من طفلته الصغيرة التي لم تتجاوز الأربع سنوات و هي تجري إليه، و تفتح ذراعيها و كأنها طائر يقترب من بيته الدافئ.
حملها ثم طبع قبلة حانية على خدها الصغير الوردي، قبل أن يتنهد و يلقي بنفسه على أقرب مقعد و هو يحمل طفلته و ينظر إلى وجهها و براءة عينيها.
جلست زوجته على الأرض و وضعت وجهها على كفه ثم قالت:
- طلبتك عبر الهاتف المحمول عدة مرات و لم تجب، كنت خائفة عليك لدرجة كبيرة.
ثم نظرت إليه و سألته:
- اليوم بارد للغاية، لماذا لم تلبس معطفك الثقيل ..؟؟
لم يجبها و لم تنتظر هي إجابة لأنها قالت :
- كل عام و أنت بخير، اليوم هو عيد ميلادك .
ثم وقفت و واصلت حديثها :
- أغمض عينيك
أغمض عينيه و هو يري أن طبول الحرب تخفت رويداً رويداً إلى حد أنه لا يستطيع أن يسمعها بوضوح الآن.
فتح عينيه عندما أخبرته زوجته بذلك ليجد علبة أنيقة بها رابطة عنق حمراء، أبتسم و هو ينظر إليها قبل أن تقول زوجته:
- هل أعجبتك..؟؟ أعرف أنك تحب اللون الأحمر .
نظر إلي زوجته، تأمل ملامح وجهها و فرحتها الكبيرة ثم قال :
- طالما أنك تحبين هذا اللون فأنا أيضاً أحبه.
كان يعرف أن كلماته كاذبة، و كان يعرف أن أية ثورة سوف تموت عند صدق مشاعر زوجته و ضحكات طفلته الصغيرة، و لكنه لم يعرف بعد هل سيظل مصدر فرح لهم و قلبه يدق بالأحزان..؟ و هل سيستمر في لعب هذا الدور ..؟، أم سيأتي يوم ينتصر فيه لنفسه و تخرج ثورته للنور دون وضع اعتبار لأية ضحايا،
و حتى لا يستمر اللون الأحمر. ..